فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الإسراء: الآيات 105- 111]

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}.

.اللغة:

{مُكْثٍ} بتثليث الميم أي تطاول في المدة وعلى مهل وتؤدة ولم ترد قراءة بالكسر.
{الْأَذْقانِ}: جمع ذقن وهو مجتمع اللحيتين وسيأتي تفصيل واسع في باب البلاغة.
{تُخافِتْ}: تسر، يقال خفت الصوت من بابي ضرب وجلس إذا سكن ويعدى بالباء فيقال خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه وخافت بقراءته مخافته إذا لم يرفع صوته بها وخفت الزرع ونحوه مات فهو خافت.

.الإعراب:

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} الكلام هنا مرتبط بما تقدم من كلامه تعالى عن القرآن وقوله: {قل لئن اجتمعت الانس والجن} إلخ على طريق الاستطراد المتبع في أساليب العرب حيث ينتقلون من الصدد الذي هم فيه إلى غيره ثم يعودون إليه، وعلى كل فالواو استئنافية وبالحق متعلقان بأنزلناه وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بنزل فالباء سببية فيهما ولك أن تجعلها للملابسة فيتعلق الجار والمجرور بمحذوف حال أي ملتبسا والحال من المفعول به أو ملتبسين بالحق فالحال من الفاعل وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة.
{وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} الواو عاطفة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرا حال ونذيرا معطوف عليه وسيأتي الحديث عن هذا القصر في باب البلاغة. {وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} وقرآنا منصوب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره ما بعده فتكون جملة فرقناه مفسرة أي جعلنا نزوله مفرقا منجما حسب الحوادث والوقائع ومقتضيات الأحوال، ولتقرأه اللام للتعليل وتقرأه مضارع منصوب بأن مضمرة والجار والمجرور متعلقان بفرقناه وفرقناه فعل وفاعل ومفعول به وعلى الناس متعلقان بتقرأه وعلى مكث في موضع الحال من الفاعل أي متريثا متمهلا وشيئا بعد شيئا رعاية لمصالح العباد ومعايشهم، ونزلناه فعل وفاعل ومفعول به وتنزيلا مفعول مطلق. {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} جملة آمنوا مقول القول والأمر للاحتقار أي سواء علينا إيمانكم أو عدمه فما أنتم بمن يؤبه لهم أو لا تؤمنوا وأو حرف عطف ولا ناهية وتؤمنوا مجزوم بلا. {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا}
ان واسمها وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول ثان لأوتوا والأول نائب الفاعل وهو الواو ومن قبله حال والجملة تعليلية للقول على سبيل التسلية له صلى اللّه عليه وسلم وإذا ظرف مستقبل متعلق بيخرون وجملة يتلى مضاف إليها الظرف وعليهم متعلقان بيتلى وجملة يخرون لا محل لها لأنها جواب إذا وللأذقان متعلقان بيخرون وسجدا حال. {وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا} ويقولون عطف على يخرون وسبحان ربنا مفعول مطلق وإن مخففة مهملة واسمها ضمير الشأن وجملة كان خبرها ووعد ربنا اسم كان واللام الفارقة ومفعولا خبرها. {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} الجملة معطوفة على سابقتها وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة وجملة يبكون حالية والواو للحال ويزيدهم فعل وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وخشوعا مفعول به ثان وسيأتي سر هذين الحالين المتتابعين في باب البلاغة.
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} سمعوا محمدا يدعو مرة في سجوده ويقول يا اللّه يا رحمن فقال أبو جهل إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين اثنين فنزلت، وجملة ادعوا اللّه مقول القول والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهي تنصب مفعولين حذف أحدهما استغناء عنه للعلم به ولفظ الجلالة مفعول به وأو للتخيير فهي عاطفة وادعوا معطوف على ادعوا الأولى والرحمن مفعول به أي سموه بهذا الاسم أو بذاك {أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} أيا شرطية وهي منصوبة بتدعوا على أنها مفعول مقدم وما زائدة للابهام المؤكد وتدعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وله خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى صفة وقيل ما شرطية وجمع بين أداتي الشرط للتأكيد ولاختلاف اللفظين ولا داعي لهذا وستأتي الأسماء الحسنى في باب الفوائد. {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} الواو عاطفة ولا ناهية وتجهر مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت نهي عن المجاهرة تفاديا لشتائمهم وهذا من محاسن الأخلاق ولا تخافت عطف على ولا تجهر أي لا تجعلها غير مسموعة لمن خلفك من المصلين وابتغ فعل أمر بني على حذف حرف العلة وبين ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسبيلا وذلك مضاف للظرف والاشارة إلى اثنين وهما المجاهرة والمخافتة ولذلك صح دخول بين، وسبيلا مفعول ابتغ. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} جملة الحمد للّه مقول القول والحمد مبتدأ وللّه خبر والذي صفة وجملة لم يتخذ ولدا صلة وترتيب الحمد على عدم اتخاذ الولد لأن من كان هذا وصفه فهو القادر ولا شك على إسباغ النعم وايلائها أما صاحب الولد فهو مستهدف للتلهي بولده عن غيرهم والاشتغال بهم عمن سواهم.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} عطف على لم يتخذ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وله خبرها المقدم وشريك اسمها المؤخر وفي الملك متعلقان بشريك ونفي الشريك أدعى إلى الحمد لعدم وجود المزاحم الذي تتعارض إرادته معه. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} عطف على ما تقدم ونفي النصير يدل على الاستغناء وإنما يستغني القوي القادر على زيادة الإنعام ومن الذل متعلقان بولي أي ناصر وكبّره عطف على قل وهو فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وتكبيرا مفعول مطلق للتأكيد.

.البلاغة:

حفلت خواتم سورة الإسراء بطائفة من فنون البلاغة نوجزها فيما يلي فأولها:
1- الذكر أو التصريح:
بقوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} فإنه لو ترك الإظهار وعدل عنه إلى الإضمار كما يقتضي السياق فقال: وبالحق أنزلناه وبه نزل، لم يكن فيه من الفخمية ما فيه الآن ويسميه بعضهم بالتصريح ويورد عليه شاهدا قول البحتري:
قد طلبنا فلم نجد لك في السو ** ء دد والمجد والمكارم مثلا

والمعنى قد طلبنا مثلا فلم نجده وحذف لأن هذا المدح إنما يتم في المثل وأما الطلب فكالشيء الذي يذكر ليبنى عليه الغرض المطلوب وإذا كان ذلك كذلك فقد قال قد طلبنا مثلا في السؤدد والمجد فلم نجده ومنه قوله تعالى: {قل هو اللّه أحد اللّه الصمد} فلو ترك الإظهار إلى الإضمار فقال: قل هو اللّه وهو الصمد، لم يكن له الوقع الملائم.
2- فن الاستطراد:
الاستطراد: ذكر الحاتمي في قواعد الشعر: أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر وسماه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى وعرفه غيره بأنه أن يكون المتكلم في غرض من الأغراض يوهم أنه مستمر فيه لم يخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ثم يرجع إلى الأول ويقطع الكلام فقد انتقل سبحانه من كلامه عن القرآن وان الانس والجن عاجزون عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، انتقل إلى ما في منطوياته من مثل وعبر وبصائر وانساق الكلام إلى تعنت الكافرين وتماديهم في اللجاج وسدورهم في الغي والمكابرة وطمس الحقائق وإنكار الوقائع ثم أورد شاهدا على ذلك ما لاقاه موسى من مكابرة فرعون وملئه وضرب مثلا في المغبة التي نالها فرعون ومن معه ثم عاد إلى الموضوع الذي شرع فيه وهو كون القرآن نازلا بالحق واليه هادفا ومن طريف الاستطراد قول عبد المطلب المشهور:
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ** فإن تسلّت أسلناها على الأسل

لا ينزل المجد إلا في منازلنا ** كالنوم ليس له مأوى سوى المقل

فقد استطرد من ذكر المجد إلى النوم وقد استغله الشعراء للهجاء قال بعضهم يهجو شعر خالد الكاتب:
وشادن بالدلال عاتبني ** ومنيتي في تدلل العاتب

فكان ردي عليه من خجلي ** أبرد من شعر خالد الكاتب

فما أجمل هذا الاستطراد، لقد كان يتغزل بالشادن، وليس ثمة أبرد ممن يعاتب الحلو الجميل، ويرد عليه إذا تدلل أو عتب، وان من يتكلف مثل هذا الرد لن يأتي إلا بالبارد من الكلام الذي يشبه شعر خالد الكاتب، وجميل قول بعضهم يهجو قاضي القضاة منتقلا من وصف البستان إلى ما هو بصدده قال:
للّه بستان حللنا دوحه ** في جنة قد فتحت أبوابها

والبان تحسبه سنانيرا رأت ** قاضي القضاة فنفشت أذنابها

وأورد الباخرزي في دمية القصر للظاهر الحرمي هذه الأبيات بهجو فيها مغنيا اسمه البرقعيدي وهي:
وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ** وبرد أغانيه وطول قرونه

قطعت دياجيه بنوم مشرّد ** كعقل سليمان بن فهد ودينه

على أولق فيه التفات كأنه ** أبو جابر في خبطه وجنونه

إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ** سنا وجه قرواش وضوء جبينه

3- القصر وطرقه:
وفي قوله: {وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا} قصر إضافي، والقصر هو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص وينقسم إلى حقيقي وإضافي فالحقيقي ما كان الاختصاص فيه بحسب الواقع والحقيقة لا بحسب الإضافة إلى شيء آخر نحو لا كاتب في المدينة إلا علي إذا لم يكن فيها غيره من الكتاب، والإضافي ما كان الاختصاص فيه بحسب الإضافة إلى شيء معين نحو ما علي إلا قائم أي أن له صفة القيام لا صفة القعود وكل منهما ينقسم إلى قصر صفة على موصوف نحو لا فارس إلا علي وقصر موصوف على صفة نحو وما محمد إلا رسول.
والقصر الإضافي ينقسم باعتبار حال المخاطب إلى ثلاثة أقسام قصر إفراد إذا اعتقد المخاطب الشركة وقصر قلب إذا اعتقد العكس وقصر تعيين إذا اعتقد واحدا غير معين.
وللقصر طرق أربع مشهورة وطرق كثيرة غير مشهورة أما الأربع المشهورة فهي:
آ- النفي والاستثناء وهنا يكون المقصور عليه ما بعد أداة الاستثناء مثل: لا يفوز إلا المجد فالفوز مقصور والمجد مقصور عليه وهو قصر صفة على موصوف.
ب- إنما ويكون المقصور عليه مؤخرا وجوبا وقد تقدم كلام عبد القاهر على إنما نحو: إنما الحياة تعب فالحياة مقصورة والتعب مقصور عليه وهو قصر موصوف على صفة.
ج- العطف بلا أو بل أو لكن فإن كان العطف بلا كان المقصور عليه مقابلا لما بعدها نحو: الأرض متحركة لا ثابتة وإن كان العطف ببل أو لكن كان المقصور عليه ما بعدهما نحو ما الأرض ثابتة بل متحركة وما الأرض ثابتة لكن متحركة.
ه- تقديم ما حقه التأخير وهنا يكون المقصور عليه هو المقدم نحو على الرجال العاملين نثني.
وهناك طرق أخرى للقصر غير هذه الأربع منها ضمير الفصل نحو علي هو الشجاع ومنها التصريح بلفظ وحده الحالية أو ليس غير نحو أكرمت عليا وحده ولكنها لا تعدّ من طرقه الاصطلاحية.
4- التكرير المعنوي:
وقد تقدم بحث التكرير في اللفظ وهذا التكرير الذي نحن بصدده يتعلق بالمعنى فقد كرر الخرور للذقن وهو السقوط على الوجه لاختلاف الحالين فالأول خرورهم في حال كونهم ساجدين والثاني خرورهم في حال كونهم باكين أو الأول في حالة سماع القرآن أو قراءته والثاني في سائر الحالات ثم عقب الحالين بحال ثالثة وهي زيادتهم خشوعا كلما قرءوا وكلما سجدوا فاستوفى بذلك سائر أحوالهم وهم الكملة الذين أوتوا العلم ومما لابد من التنويه أنه أتى بالحال الأولى اسما وهي قوله سجدا للدلالة على الاستمرار وأتى بالحال الثانية فعلا للدلالة على التجدد والحدوث فكأنما بكاؤهم يتجدد بتجدد الأحوال الطارئة والعظات المتتالية وهذا موضع من التكرير مشكل وتدق معرفته على الأغمار ومما ورد منه حديث حاطب بن بلتعة في غزوة الفتح وذاك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب والزبير والمقداد رضي اللّه عنهم فقال: اذهبوا إلى روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فأتوني به، قال علي رضي اللّه عنه: فخرجنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة وإذا فيها الظعينة فأخذنا الكتاب من عقاصها وأتينا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإذا هو من حاطب بن بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول اللّه لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم بدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «انه قد صدقكم» فقوله: ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام من التكرير الحسن يظنه بعض الجهال تكريرا لا فائدة فبه، فإن الكفر والارتداد عن الدين سواء وكذلك الرضا بالكفر بعد الإسلام وليس كذلك والذي يدل عليه اللفظ هو اني لم أفعل ذلك وأنا كافر: أي باق على الكفر ولا مرتدا: أي اني كفرت بعد إسلامي، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.
أي ولا إيثارا لجانب الكفار على جانب المسلمين وهذا حسن حسن واقع في مكانه ولكن هي مقتضيات الأحوال ومتشعبات لا يرود ثناياها إلا الطلعة المتذوق. ومما ورد شعرا من هذا التكرير المعنوي قول المقنع الكندي ونوردها كاملة لأهميتها:
يعاتبني في الدّين قومي وإنما ** ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

أسدّ به ما قد أخلوا وضيعوا ** ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا

وإن الذي بيني وبين بني أبي ** وبين بني عمي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ** وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا

وان زجروا طيرا بنحس تمر بي ** زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس ** رئيس القوم من يحمل الحقدا

وليسوا إلى نصري سراعا ** وان هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا

وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ** وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا

فإن كل لحم يؤكل للانسان هو تضييع لغيبه وليس كل تضييع لغيبه أكلا للحمه ألا ترى أن أكل اللحم هو الاغتياب وأما تضييع الغيب فمنه الاغتياب ومنه التخلي عن النصرة والاعانة ومنه إهمال السعي في كل ما يعود بالنفع كائنا ما كان وهو موضع يرد في الكلام البليغ ويظن الجاهل أنه لا فائدة فيه.